ترحيل رغم الخطر.. الوجه المظلم لسياسات اللجوء في أوروبا

ترحيل رغم الخطر.. الوجه المظلم لسياسات اللجوء في أوروبا
الترحيل القسري

رغم توقيع أغلب الدول الأوروبية على اتفاقيات دولية تلزمها بحماية اللاجئين من الإعادة القسرية، تكشف تقارير حقوقية متتالية عن استمرار ترحيل طالبي اللجوء والمهاجرين أو المدانين بجرائم إلى بلدان يواجهون فيها خطرًا حقيقيًا بالتعذيب وسوء المعاملة، وبين مبادئ القانون الدولي وممارسات بعض الحكومات، تتضح فجوة واسعة تدفع ثمنها الأرواح المستضعفة

واتفقت الأسرة الدولية منذ عقود على مبدأ "عدم الإعادة القسرية"، المنصوص عليه في اتفاقية جنيف لعام 1951 واتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984، والذي يحظر ترحيل أي شخص إلى بلد قد يتعرض فيه للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، هذا المبدأ يُعد حجر الزاوية في نظام حماية اللاجئين، لكن ما يجري في الممارسة العملية يكشف قصورًا كبيرًا في احترام هذه الالتزامات.

وتؤكد منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش في تقارير متواترة أن بعض الدول الأوروبية، ومنها فرنسا والمجر والدنمارك، نفذت عمليات ترحيل لطالبي لجوء رغم وجود أدلة قوية على أنهم سيتعرضون لانتهاكات جسيمة في بلدانهم الأصلية، متذرعة بأسباب أمنية أو أحكام قضائية محلية لا تأخذ بشكل كافٍ المعايير الدولية بعين الاعتبار.

حالة محمد الفاهم

أحدث الأمثلة على ذلك قصة محمد الفاهم، المواطن التونسي الذي رحّلته فرنسا في يوليو 2025 بعد إنهاء محكوميته بتهمة "الانضمام إلى جماعة إرهابية".

ورغم أنه كان يواجه حكمًا غيابيًا في تونس بالسجن 132 عامًا بتهم تتعلق بالإرهاب، حذّرت محكمة الاستئناف الفرنسية في وقت سابق من أن تسليمه قد يعرّضه لـ"خطر حقيقي وجاد بالحرمان الصارخ من العدالة والتعذيب".

ومع ذلك، نفذت السلطات الفرنسية الترحيل قبيل نظر مجلس الدولة في طلب الطعن، ما عدّه محاموه ومراقبون انتهاكًا صريحًا لمبدأ عدم الإعادة القسرية، وتقول منظمة العفو الدولية إن هذه الخطوة تُظهر ميلًا مقلقًا لدى بعض الحكومات لتغليب "الهاجس الأمني" على الحقوق الأساسية لطالبي اللجوء.

مفاهيم غامضة وتفسيرات مرنة

يرى خبراء القانون الدولي أن أحد أسباب استمرار هذه الانتهاكات يكمن في الغموض الذي يكتنف تقييم الأخطار في بعض الأنظمة القضائية، فعندما تبرر الدول عمليات الترحيل بأنها تستهدف "عناصر خطرة على الأمن القومي"، تترك بذلك مساحة واسعة للتقدير الأمني على حساب المعايير القانونية والإنسانية.

ويؤكد تقرير صادر عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عام 2024 أن بعض الدول تستخدم مصطلحات مثل "الخطر المحتمل" أو "الشبهات الجدية" لتبرير الطرد، دون الحاجة لإثبات خطر حقيقي ووشيك كما يفرض القانون الدولي.

وبعيدًا عن القاعات القضائية، تترك هذه السياسات أثرًا مدمرًا على أسر المرحّلين، ففي شهادات وثقتها جمعية "لاسان بلافرونتير" الفرنسية، تحدثت عائلات عن اختفاء أقاربهم بعد الترحيل أو تلقي أخبار تعرضهم لسوء معاملة في السجون، وهذه القصص، تقول المنظمة، غالبًا لا تجد صدىً في وسائل الإعلام، لكن تأثيرها طويل الأمد في الروابط الأسرية والنسيج المجتمعي يصعب إصلاحه.

إحصاءات تُثير القلق

وفق بيانات حديثة صادرة عن المجلس الأوروبي للاجئين والمنفيين (ECRE)، بلغ عدد طالبي اللجوء الذين تم ترحيلهم إلى بلدان يُصنفها التقرير بأنها "عالية الخطورة" أكثر من 1500 شخص بين عامي 2021 و2024، وتحتل سوريا واليمن وتونس والسودان قائمة الدول التي رحّل إليها أكبر عدد رغم تحذيرات المنظمات الحقوقية.

أما المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فقد أصدرت في السنوات الأخيرة أكثر من 40 حكمًا يدين دولًا أوروبية بتهمة خرق مبدأ عدم الإعادة القسرية.

ويحذر أطباء نفسيون من أن طالبي اللجوء المرحّلين، خصوصًا ممن لديهم سوابق تعذيب أو صدمات، يواجهون خطرًا مضاعفًا عند إعادتهم قسرًا، فالصدمة الأصلية تتفاقم نتيجة الشعور بالخيانة من بلد كان يُفترض أن يكون ملاذًا آمنًا، إضافة لاحتمال تعرضهم مجددًا للتعذيب أو الاحتجاز التعسفي.

ويوثق تقرير أعدّته منظمة "أطباء بلا حدود" في 2023 حالات انتحار بين أشخاص جرى ترحيلهم ثم أعيدوا مجددًا بعد فرارهم مرة أخرى، نتيجة فقدان الثقة الكاملة بأي نظام حماية.

مواقف المنظمات الدولية

المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تدعو بوضوح الدول إلى الالتزام الصارم بمبدأ عدم الإعادة القسرية حتى في القضايا ذات الطابع الأمني، مؤكدة أن "الأمن القومي لا يمكن أن يبرر تعريض شخص للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية".

أما منظمة العفو الدولية فقد انتقدت "سياسة الباب الدوار" في بعض الدول، حيث يُحتجز طالب اللجوء لسنوات دون حكم قضائي واضح، ثم يُرحّل بشكل مفاجئ دون ضمانات المحاكمة العادلة.

ويؤكد خبراء حقوقيون ومراقبون أن الحل لا يكمن فقط في إيقاف الترحيلات الخطرة، بل يتطلب إعادة النظر في منظومة اللجوء الأوروبية برمتها. وتشمل هذه الإصلاحات ضرورة منح طالبي اللجوء إمكانية حقيقية للطعن في قرارات الترحيل، وضمان الاستماع إليهم أمام محاكم مستقلة، مع الاستعانة بتقارير متخصصة حول أوضاع حقوق الإنسان في بلدانهم.

ويرى تقرير صدر أخيرًا عن معهد الدراسات السياسية الأوروبي أن التغيير الحقيقي يحتاج لإرادة سياسية تتجاوز لغة "ردع الهجرة" لمصلحة حماية الحق في الحياة والكرامة.

وتضع قضية ترحيل طالبي اللجوء إلى بلدان يواجهون فيها خطر التعذيب أوروبا أمام امتحان قيمي حقيقي.. هل ستظل مبادئ حقوق الإنسان مجرد شعارات تُرفع في المؤتمرات، أم تتحول إلى سياسات عملية حتى في أصعب الظروف؟ حتى ذلك الحين، سيبقى مئات اللاجئين معلقين بين مطرقة الرفض الأمني وسندان الخطر الذي هربوا منه في الأصل.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية